فصل: تفسير الآيات (40- 48):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الثعلبي



.تفسير الآيات (40- 48):

{يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44) وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46) يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)}
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ} أولاد يعقوب، ومعنى إسرائيل: صفوة الله، وإيل هو الله عزّ وجلّ، وقيل: معناه: عبد الله، وقيل: سمّي بذلك لأنّ يعقوب وعيصا كانا توأمين واقتتلا في بطن أُمهما، فأراد يعقوب أن يخرج فمنعه عيص وقال: والله لئن خرجت قبلي لأعترضنّ في بطن أمّي، فلأقتلنّها، فتأخّر يعقوب وخرج عيص وأخذ يعقوب يعقب عيص فخرج عيص قبل يعقوب.
وسمّي عيص لما عصى فخرج قبل يعقوب، وكان عيص أحبّهما إلى أبيه وكان يعقوب أحبّهما إلى أُمة، وكان عيص ويعقوب أبناء إسحاق وعميَ، قال لعيص: يا بنّي أطعمني لحم صيد واقترب مني أُدعُ لك بدعاء دعا لي به أبي، وكان عيص رجلا أشعر وكان يعقوب رجلاً أمرد، فخرج عيص بطلب الصيد، فقالت أُمّه ليعقوب: يا بنّي إذهب إلى الغنم فاذبح منه شاةً ثمّ اشوه والبس جلدها وقدمها إلى أبيك فقل له: أنّك عيص، ففعل ذلك يعقوب، فلمّا جاء قال: يا أبتاه كل، قال: من أنت، قال: ابنك عيص (قال: خمسه فقال: المس مسّ عيص والريح ريحة يعقوب، قالت أُمه: هو ابنك، فادع له، قال: قدم طعامك فقدّمه فأكل منه، ثم قال: أُدن مني، فدنا منه، فدعا له أن يجعل في ذريته الأنبياء والملوك. وقام يعقوب وجاء عيص فقال: قد جئتك بالصيد الذي أمرتني به. فقال: يا بني قد سبقك أخوك يعقوب، فغضب عيص وقال: والله لأقتلنه، قال: يا بني قد بقيت لك دعوة، فهلم أدع لك بها، فدعا له فقال: تكون ذريتك عدداً كثيراً كالتراب ولا يملكهم أحد غيرهم...).
{اذكروا}....
روى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لم يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر الله، والمحدث بنعمة الله شاكر وتاركها كافر، والجماعة رحمة والفرقة عذاب».
{نِعْمَتِيَ} أراد نعمي أعطها وهي واحد بمعنى الجمع وهو قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] والعدد لا يقع على الواحد.
{التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} أي على أجدادكم، وذلك أن الله تعالى فلق لهم البحر وأنجاهم من فرعون وأهلك عدوّهم فأورثهم ديارهم وأموالهم، وظلل عليهم الغمام في التيه من حر الشمس، وجعل لهم عموداً من نور يضيء لهم بالليل إذا لم يكن ضوء القمر، وأنزل عليهم المنّ والسّلوى، وفجّر لهم اثني عشرة عيناً وأنزل عليهم التوراة فيها بيان كلّ شيء يحتاجون إليه في نعم من الله كثيرة لا تحصى.
{وَأَوْفُواْ بعهدي} الذي عهدت اليكم {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} أدخلكم الجنّة وأنجز لكم ما وعدتكم.
فقرأ الزهري: أوفّ بالتّشديد على التأكيد يقال: وفّى وأوفى كلّها بمعنى واحد وأصلها الاتمام.
قال الكلبي: عهد إلى بني إسرائيل على لسان موسى: إنّي باعث من بني إسماعيل نبيّاً أميّاً فمن إتّبعه وآمن به عفوت عن ذنبه وأدخلته الجنة وجعلت له أجرين إثنين، وهو قوله: {وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ} [آل عمران: 187] يعني أمر محمد صلى الله عليه وسلم.
قتادة: هو العهد الذي أخذ الله عليهم في قوله: {لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ} [المائدة: 70] وقوله تعالى: {قَرْضاً حَسَناً} [البقرة: 245] فهذا قوله: {وَأَوْفُواْ بعهدي} ثم قال: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ} الآية [المائدة: 12]. فهذا قوله: {أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}.
فقال: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله} الآية [البقرة: 83].
الحسن: هو قوله: {وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور} [البقرة: 63] الآية.
إسماعيل بن زياد: ولا تفرّوا من الزحف أدخلكم الجنة، دليله قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَانُواْ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} [الأحزاب: 15].
وقيل: أوفوا بشرط العبوديّة، أوفِ بشرط الربوبيّة.
وقال أهل الاشارة: أوفوا في دار محنتي على بساط خدمتي، أوفِ عهدكم في دار نعمتي على بساط كرامتي بقربي ورؤيتي.
{وَإِيَّايَ فارهبون} فخافوني في نقض العهد وسقطت الياء بعد النون في هذه الآيات وفي كلّ القرآن على الأصل، وحذفها الباقون على الخط إتّباعاً للمصحف.
{وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً} موافقاً {لِّمَا مَعَكُمْ} يعني التوراة في التوحيد والنبّوة والأخبار، وبعض الشرائع نزلت في كعب وأصحابه من علماء اليهود ورؤسائهم.
{وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ} يعني أوّل من يكفر بالقرآن وقد بايعتنا اليهود على ذلك فتبوءوا بآثامكم وآثامهم.
{وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي} أي ببيان صفة محمد ونعته. {ثَمَناً قَلِيلاً} شيئاً يسيراً، وذلك أنّ رؤساء اليهود كانت لهم مآكل يصيبونها من سفلتهم وعوامّهم يأخذون منهم شيئاً معلوماً كلّ عام من زروعهم فخافوا أن تبينوا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وبايعوه أن تفوتهم تلك المآكل والرّياسة، فاختاروا الدنيا على الآخرة.
{وَإِيَّايَ فاتقون} فاخشوني في أمر محمد لا فيما يفوتكم من الرياسة والمأكل.
{وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق} ولا تخلطوا، يقال: لبست عليهم الأمر ألبسه لبساً إذا خلطته عليهم أي خلطت وشبهت الحقّ الذي أنزل اليكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم.
{بالباطل}، الذي تكتمونه، وهو تجدونه في كتبكم من نعته وصفته.
وقال مقاتل: إنّ اليهود أقرّوا ببعض صفه محمد صلى الله عليه وسلم وكتموا بعضاً واختلفوا في ذلك، فقال الله عز وجل: {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق} الذي تقرّون به وتبيّنونه بالباطل، يعني بما تكتمونه، فالحق بيانهم والباطل كتمانهم.
وقيل: معناه ولا تلبسوا الحقّ.... من الباطل صفة أو حال.
{وَتَكْتُمُواْ الحق} يعني ولا تكتموا الحق كقوله تعالى: {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال: 27].
{وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} إنّه نبيٌّ مرسل.
{وَأَقِيمُواْ الصلاة} يعني وحافظوا على الصلوات الخمس بمواقيتها وأركانها وركوعها وسجودها.
{وَآتُواْ الزكاة} يعني وأدّوا زكاة أموالكم المفروضة، وأصل الزكاة: الطهارة والنّماء والزيادة.
{واركعوا مَعَ الراكعين} يعني وصلّوا مع المصلين محمّد وأصحابه، يخاطب اليهود فعبّر بالركوع عن الصلاة إذ كان ركناً من أركانها كما عبّر باليد عن العطاء كقوله: {ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: 181] وقوله: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30] وبالعنق عن البدن في قوله: {أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13] والأنف عن [............].
{أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر} الطاعة والعمل الصالح، {وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ} تتركون {وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب} توبيخ عظيم {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ} أي أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية لكم.
{واستعينوا بالصبر والصلاة}.......
{وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} عليهما ولكنه كنّى عن الأغلب وهو الصلاة كقوله: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} [التوبة: 34] وقوله: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] فرد الكناية إلى الفضة لأنها الأغلب والأعم وإلى التجارة لأنها الأفضل والأهم... {وَإِنَّهَا} واحد منهما، أراد بأن كل خصلة منهما {لَكَبِيرَةٌ} وقيل: رد الكناية إلى كل واحد منهما قال تعالى: {وَجَعَلْنَا ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً} [المؤمنون: 50] ولم يقل: آيتين، أراد: جعلنا كل واحد منهما آية.
حسن من علم يزينه حلم ** ومن ناله قد فاز بالفرج

أي من نال كل واحد منهما.
وقال آخر:
لكل همّ من الهموم سَعة ** والمسى والصبح لا فلاح معه

وقيل: ردّ الهاء إلى الصلاة لأنّ الصبر داخل في الصلاة كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 62] ولم يقل يرضوهما؛ لأنّ رضا الرسول داخل في رضا الله، فردّ الكناية إلى الله. وقال الشاعر وهو حسّان:
إنّ شرخ الشباب والشعر الأس ** ود ما لم يُعاص كان جنونا

ولم يقل يُعاصَيا ردّه إلى الشباب، لأن الشعر الأسود داخل فيه. وقال الحسين بن الفضل: ردّ الكناية إلى الاستعانة، معناه: وأن الإستعانة بالصبر والصلاة لكبيرة ثقيلة شديدة {إِلاَّ عَلَى الخاشعين} يعني المؤمنين، وقال ابن عباس: يعني المصلّين. الوراق: العابدين المطيعين. مقاتل بن حيان: المتواضعين، الحسن: الخائفين. قال الزجاج: الخاشع الذي يُرى أثر الذل والخنوع عليه، وكخشوع الدار بعد الاقواء، هذا هو الأصل.
وقال النابغة:
رماد ككحل العين ما أن تبينه ** ونؤي كجذم الحوض أثلم خاشع

{الذين يَظُنُّونَ} يعلمون ويستيقنون، كقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ} [الحاقة: 21] أي أيقنت به.
وقال دريد بن الصمة:
فقلت لهم ظنوا بألفي مدجج ** سراتهم في الفارسي المسرّد

يعني أيقنوا.
والظن من الأضداد يكون شكّاً ويقيناً كالرّجاء يكون أملاً وخوفاً.
{أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ} معاينوا ربّهم في الآخرة {وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فيجزيهم بأعمالهم.
{يَابَنِي إِسْرَائِيلَ اذكروا نِعْمَتِي التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} يعني عالمي زمانكم.
{واتقوا يَوْماً} أي واحذروا يوماً واخشوا يوم.
{لاَّ تَجْزِي} أي لا تقضي ولا تكفي ولا تغني.
ومنه الحديث عن أبي بردة بن ديّان في الأضحية: لا تجزي عن أحد بعدك.
وقرأ أبو السماك العدوي: لا تجزي مضمومة التّاء مهموزة الياء من أجزأ يجزي إذا كفي.
قال الشاعر:
وأجزأت أمر العالمين ولم يكن ** ليجْزي إلاّ كامل وابن كامل

وقال الزجاج: وفي الآية إضمار معناه: {لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً} من الشدائد والمكاره.
وأنشد الشاعر:
ويوم شهدناه سليماً وعامرا

أي شهدنا فيه.
وقيل: معناه: ولا تغني نفس مؤمنة ولا كافرة عن نفس كافرة.
{وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ} إذا كانت كافرة.
قرأ أهل مكّة والبصرة: بالتّاء لتأنيث الشفاعة. وقرأ الباقون: بالياء لتقديم الفعل.
وقرأ قتادة: {ولا يقبل منها شفاعة} بياء مفتوحة، ونصب الشفاعة أي لا يقبل الله.
{وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ} فداءاً كانوا يأخذون في الدنيا، وسمّي الفداء عدلاً لأنّه يعادل المفدّى ويماثله قال الله عزّ وجلّ: {أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً} [المائدة: 95].
{وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ} أي يمنعون من عذاب الله.
قال الزجاج: كانت اليهود تزعم أنّ آباءها الأنبياء تشفع لهم عند الله عزّ وجلّ، فأيأسهم الله من ذلك.

.تفسير الآيات (49- 54):

{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)}
{وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم} يعني أسلافكم وآباءكم فأعتدّها منّة عليهم؛ لأنّهم نجوا بنجاتهم، ومآثر الآباء مفاخر الأبناء.
وقوله: {فَأَنجَيْنَاكُمْ} [البقرة: 50]: أصله ألقيناكم على النّجاة وهو ما ارتفع واتّسع من الأرض هذا، هو الأصل، ثم سمّي كلّ فائز ناجياً كأنّه خرج من الضيق والشدة إلى الرخاء والراحة.
وقرأ إبراهيم النخعي: وإذ نجّيناكم على الواحد.
{مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ}: أي أشياعه وأتباعه وأسرته وعزّته وأهل دينه، وأصله من الأول وهو الرجوع كأنّه يؤول إليك، وكان في الأصل همزتان فعّوضت من إحداهما مدّ وتخفيف.
وفرعون: هو الوليد بن مصعب بن الريّان، وكان من العماليق.
{يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب} يعني يكلّفونكم ويذيقونكم أشدّ العذاب وأسوأه، وذلك أنّ فرعون جعل بني إسرائيل خدماً وعبيداً وصنّفهم في أعمالهم. فصنف يبنون، وصنف يحرثون ويزرعون، وصنف يخدمون، ومن لم يكن منهم في عمل من هذه الأعمال فعليه الجزية.
{يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ}.
وقرأ ابن محيصن: بالتخفيف فتح الياء والباء من الذبح، والتشديد على التكثير، وذلك أنّ فرعون رأى في منامه كأنّ ناراً أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر فأحرقتها وأحرقت القبط وتركت بني إسرائيل، فهاله ذلك، ودعا بالسحرة والكهنة وسألهم عن رؤياه فقالوا: إنّه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك وزوال ملكك وتبديل دينك، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل، وجمع القوابل من أهل مملكته فقال لهنّ: لا يسقطنّ على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلاّ قتل ولا جارية إلاّ تركت، ووكّل بهنّ من يفعلن ذلك، وأسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل فدخل رؤوس القبط على فرعون فقالوا له: إنّ الموت قد وقع في بني إسرائيل وأنت تذبح صغارهم ويموت كبارهم، فيوشك أن يقع العمل علينا، فأمر فرعون أن يذبحوا سنة ويتركوا سنة فولد هارون في السنة التي لا يذبحون فيها فترك، وولد موسى في السنة التي يذبحون فيها.
{وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} في إنجائكم منهم نعمة عظيمة، والبلاء تنصرف على وجهين: النعماء والنقماء [...........].
{وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ}.......
{البحر}: وذلك إنّه لما دنا هلاك فرعون أمر الله عزّ وجلّ موسى أن يسري ببني إسرائيل، وأمرهم أن يسرجوا في بيوتهم إلى الصبح، وأخرج الله عزّ وجلّ كل ولد زنا في القبط من بني اسرائيل إليهم وأخرج من بني إسرائيل كل ولد زنا منهم إلى القبط حتى رجع كل واحد منهم إلى أبيه، وألقى الله عزّ وجلّ على القبط الموت فمات كل بكراً، فاشتغلوا بدفنهم عن طلبهم حتى طلعت الشمس وخرج موسى عليه السلام في ستمائة ألف وعشرين ألف مقاتل لا يتعدّون ابن العشرين أصغرهم، ولا ابن الستين أكبرهم، سوى الذرية.
فلما أرادوا السير ضُرب عليهم التّيه فلم يدروا أين يذهبون، فدعا موسى عليه السلام مشيخة بني إسرائيل وسألهم عن ذلك. فقالوا: إنّ يوسف عليه السلام لما حضرته الوفاة أخذ على إخوته عهداً أن لا يخرجوا من مصر حتى يخرجوه معهم؛ فلذلك أنسدّ علينا الطريق، فسألهم عن موضع قبره فلم يعلموا.
فقام موسى يُنادي: أنشد الله كل من يعلم أين موضع قبر يوسف إلاّ أخبرني به، ومن لم يعلم فصمّت أذناه عن قولي. فكان يمرّ بين الرّجلين ينادي فلا يسمعان صوته حتى سمعتهُ عجوز لهم فقالت: أرأيتك إن دللتك على قبره أتعطيني كلّما سألتك، فأبى عليها وقال: حتى أسأل ربّي، فأمره الله عزّ وجلّ بايتاء سؤلها، فقالت: إني عجوز كبيرة لا أستطيع المشي فاحملني وأخرجني من مصر هذا في الدُّنيا، وأما في الآخرة فأسألك أن لا تنزل بغرفة من الجنة إلاّ نزلتها معك، قال: نعم، قالت: إنّه في جوف الماء في النيل، فادعُ الله حتى يحبس عنه الماء. فدعا الله فحبس عنه الماء، ودعا أن يؤخر طلوع الفجر إلى أن يفرغ من أمر يوسف، فحفر موسى ذلك الموضع واستخرجه في صندوق من المرمر فحمله حتى دفنه بالشام، ففتح لهم الطريق.
فساروا وموسى على ساقتهم وهارون على مقدّمتهم، وعلم بهم فرعون فجمع قومه وأمرهم أن لا يخرجوا في طلب بني إسرائيل حتى يصيح الدّيك. فوالله ما صاح ديك في تلك الليلة. فخرج فرعون في طلب بني اسرائيل وعلى مقدمته هامان في ألف ألف وسبعمائة ألف، وكان فيهم سبعون ألف من دهم الخيل سوى سائر الشّيات، وسارت بنو إسرائيل حتى وصلوا إلى البحر، والماء في غاية الزيادة.
نظروا فإذا هم بفرعون وذلك حين أشرقت الشمس، فبقوا متحيرين وقالوا: يا موسى كيف نصنع؟ وما الحيلة؟ فرعون خلفنا والبحر أمامنا. قال موسى: {كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62] فأوحى إليه: {أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر} [الشعراء: 63] فضربه فلم يُطعه، فأوحى الله إليه أن كنّه، فضربه موسى بعصاه وقال: انفلق أبا خالد بإذن الله، {فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم} [الشعراء: 63] وظهر فيها اثنا عشر طريقاً لكلّ سبط طريق، وأرسل الله عزّ وجلّ الريح والشمس على مقر البحر حتى صار يبساً.
وقال سعيد بن جبير: أرسل معاوية إلى ابن عباس فسأله عن مكان لم تطلع فيه الشمس إلاّ مرة واحدة؟ فكتب إليه: إنه المكان الذي انفلق منه البحر لبني إسرائيل.
فخاضت بنو إسرائيل البحر كل سبط في طريق وعن جانبه الماء كالجبل الضخم ولا يرى بعضهم بعضاً، فخافوا وقال كل سبط قد غرق كل إخواننا. فأوحى الله إلى حال الماء أن تشبّكي، فصار الماء شبكات يرى بعضهم بعضا، ويسمع بعضهم كلام بعض حتى عبروا البحر سالمين.
ذلك قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر} أي فلقنا وميّزنا الماء يميناً وشمالا.
{فَأَنجَيْنَاكُمْ} من آل فرعون والغرق.
{وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ} وذلك إنّ فرعون لما وصل إلى البحر فرآه منغلقاً، قال لقومه: انظروا إلى البحر انفلق لهيبتي حتى أدرك أعدائي وعبيدي الذين أبقوا وأقتلهم، أدخلوا البحر، فهاب قومه أن يدخلوه ولم يكن في خيل فرعون أنثى، وإنما كانت كلها ذكور، فجاء جبرائيل عليه السلام على فرس أنثى وديق فتقدّمهم فخاض البحر، فلما شمّت الخيول ريحها اقتحمت البحر في أثرها حتى خاضوا كلهم في البحر، وجاء ميكائيل على فرس خلف القوم يستحثهم ويقول لهم: إلحقوا بأصحابكم، حتى إذا خرج جبرائيل من البحر وهمَّ أولهم أن يخرج، أمر الله تعالى البحر أن يأخذهم والتطم عليهم فأغرقهم أجمعين؛ وذلك بمرأى من بني إسرائيل، وذلك قوله: {وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ}.
{وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ} إلى مصارعهم.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وذلك أنّ بني إسرائيل لما أمِنوا من عدوهم، ودخلوا مصر، ولم يكن لهم كتاب ولا شريعة ينتهون إليها، فوعد الله عزّ وجلّ موسى أن ينزّل عليهم التوراة، فقال موسى لقومه: إنّي ذاهب إلى ميقات ربي، وآتيكم بكتاب فيه تبيان ما تأتون وما تذرون، فواعدهم أربعين ليلة ثلاثين من ذي القعدة وعشراً من ذي الحجة واستخلف عليهم أخاه هارون.
فلما أتى الوعد جاء جبرئيل على فرس يُقال لها فرس الحياة لا يصيب شيئاً إلاّ حييّ؛ ليذهب بموسى إلى ربه، فلمّا رآه السامري وكان رجلاً صائغاً من أهل باجرو واسمه ميخا وقال ابن عباس: إسمه موسى بن ظفر، وكان رجلاً منافقاً قد أظهر الإسلام، وكان من قوم يعبدون البقر، فدخل قلبه حبُّ البقر فلما رأى جبرئيل على ذلك الفرس، قال: إنّ لهذا شأناً، وأخذ قبضةً من تربة حافر فرس جبرئيل، وكانت بنو إسرائيل قد استعاروا حلياً كثيراً من قوم فرعون حين أرادوا الخروج من مصر لغلة عرس لهم فأهلك الله عزّ وجلّ قوم فرعون فبقيت تلك الحلي في يد بني إسرائيل. فلما وصل موسى. قال السامري: إنّ الأمتعة والحلي التي استعرتموها من قوم فرعون غنيمة، ولا تحلّ لكم. فاحفروا حفرةً وادفنوها فيها حتى يرجع موسى، ويرى فيها رأيه، ففعلوا ذلك.
فلما اجتمعت الحلي صاغها السامري، ثم ألقى القبضة التي أخذها من تراب فرس جبرئيل فيه، فخرج عجلا من ذهب مرصعاً بالجواهر كأحسن ما يكون وخار خورة. قال السّدي: كان يخور ويمشي [ويقول:] هذا آلهكم واله موسى فَنسي، أي تركه ها هنا وخرج بطلبه.
وكان بنو إسرائيل قد أخلفوا الوعد فعدّوا اليوم والليلة يومين، فلما مضت عشرون يوماً ولم يرجع موسى عليه السلام ورأوا العجل وسمعوا قول السامري، أفتتن بالعجل ثمانية الآف رجل منهم، وعكفوا عليه يعبدونه من دون الله عزّ وجلّ.
{وَإِذْ وَاعَدْنَا موسى}: قرأ أبو جعفر وأبو عمرو ويعقوب: {وعدنا} بغير ألف في جميع القرآن، وقرأ الباقون: {واعدنا} بالألف، وهي قراءة ابن مسعود. فمن قرأ بغير ألف قال: لأنّ الله عزّ وجلّ هو المتفرد بالوعد والقرآن ينطق به كقوله تعالى: {وَعَدَ الله} [النساء: 95] وقوله: {إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق} [إبراهيم: 22]، ومن قرأ بالالف قال: قد يجيء المفاعلة من واحد كقولهم: عاقبت اللص، وعافاك الله، وطارقت النعل.
قال الزجاج: {واعدنا} جيد لأن بالطاعة والقبول بمنزلة المواعدة فكان من الله الوعد ومن موسى القبول.
وموسى: هو موسى بن عمران بن يصهر بن فاهث بن لاوي بن يعقوب.
{أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} وقرأ زيد بن علي: {أربعين} بكسر الباء وهي لغة، و{ليلة} نصب على التمييز والتفسير، وإنّما قرن التاريخ بالليل دون النهار؛ لأن شهور العرب وضعت على مسير القمر، والهلال إنّما يهلّ بالليل، وقيل لأنّ الظلمة أقدم من الضوء، والليل خُلق قبل النهار. قال الله عزّ وجلّ: {وَآيَةٌ لَّهُمُ الليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار} [يس: 37] الآية.
{ثُمَّ اتخذتم العجل} يقول أبو العالية: إنّما سمّي العجل لأنّهم تعجّلوه قبل رجوع موسى عليه السلام.
{مِن بَعْدِهِ} من بعد انطلاق موسى إلى الجبل للميعاد.
{وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ} مشّاؤون لأنفسكم بالمعصية، وواضعون العبادة في غير موضعها.
{ثُمَّ عَفَوْنَا عَنكُم} أي تركناكم فلم نستأصلكم، من قول له عليه السلام: أحفوا الشّوارب واعفوا اللحي، وقيل: محونا ذنوبكم، من قول العرب: عفت الرّيح المنازل فعفت.
{مِّن بَعْدِ ذَلِكَ} أي من بعد عبادتكم العجل.
{لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} لكي تشكروا عفوي عنكم، وصنيعي إليكم.
واختلف العلماء في ماهيّة الشكر، فقال ابن عباس: هو الطاعة بجميع الجوارح لربّ الخلائق في السر والعلانية.
وقال الحسن: شكر النعمة ذكرها، قال الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضحى: 11].
الفضل: شكر كل نعمة ألاّ يُعصى الله بعد تلك النعمة.
أبو بكر بن محمد بن عمر الوراق: حقيقة الشكر: معرفة المُنعم، وأن لا تعرف لنفسك في النعمة حظّاً بل تراها من الله عزّ وجلّ. قال الله تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله} [النحل: 53] يدل عليه ما روى سيف بن ميمون عن الحسين: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال موسى عليه السلام: يا ربّ كيف استطاع آدم أنْ يؤدي شكر ما أجريت عليه من نعمك، خلقته بيدك واسجدت له ملائكتك واسكنته جنَّتك؟ فأوحى الله إليه: إنّ آدم علم إنّ ذلك كله منّي ومن عندي فذلك شكر».
وعن إسحاق بن نجيح الملطي عن عطاء الخرساني عن وهب بن منبّه قال: قال داود عليه السلام: إلهي كيف لي أن أشكرك وأنا لا أصِلُ إلى شكرك إلاّ بنعمتك؟ فأوحى الله تعالى إليه: ألست تعلم أنّ الذي بك من النعم منّي؟ قال: بلى يا ربّ، قال: أرضى بذلك لك شكراً.
وقال وهب: وكذلك قال موسى: يا ربّ أنعمت عليّ بالنعم السوابغ وأمرتني بالشكر لك عليها، وإنما شكري لكل نعمة منك عليّ، فقال الله: يا موسى تعلّمت العلم الذي لا يفوته علم، حسبي من عبدي أن يعلم أن ما به من نعمة فهو منّي ومن عندي.
قال الجنيد: حقيقة الشكر: العجز عن الشكر.
وروى ذلك عن داود عليه السلام إنّه قال: سبحان من جعل اعتراف العبد بالعجز عن شكره شكراً، كما جعل اعترافه بالعجز عن معرفته معرفة.
وقال بعضهم: الشكر أن لا يرى النعمة البتة بل يرى المنعم.
أبو عثمان الخيري: صدق الشكر: لا تمدح بلسانك غير المنعم.
أبو عبد الرحمن السلمي عن أبي بكر الرازي عن الشبلي: الشكر: التواضع تحت رؤية المنّة.
وقيل: الشكر خمسة أشياء: مجانبة السيئات، والمحافظة على الحسنات، ومخالفة الشهوات، وبذل الطاعات، ومراقبة ربّ السموات.
قال الثعلبي: سمعت أبا القاسم الحبيبي يقول: سُئل أبو الحسن علي بن عبد الرحيم القناد في الجامع بحضرة أبي بكر بن عدوس وأنا حاضر: من أشكر الشاكرين؟ قال: الطاهر من الذنوب، يعدُّ نفسه من المذنبين، والمجتهد في النوافل بعداد الفرائض، يعدُّ نفسه من المقصّرين، والراضي بالقليل من الدُّنيا، يعدُ نفسهُ من المفلسين، فهذا أشكر الشاكرين.
بكر بن عبد الرحمن عن ذي النّور: الشكر لمن فوقك بالطاعة، ولنظيرك بالمكافأة، ولمن دونك بالإحسان والإفضال.
{وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان}
قال مجاهد والفراء: هما شيء واحد، والعرب تكرر الشيء إذا اختلفت ألفاظه على التوهم، وأنشد الفراء:
وقدّمت الأديم لراهشيه ** وألفى قولها كذباً وميْنَا

وقال عنترة:
حيّيت من طلل تقادم عهده ** أقوى وأقفر بعد أمّ الهيثم

وقال الزجاج: وهذا هو القول؛ لأنّ الله عزّ وجلّ ذكر لموسى الفرقان في غير هذا الموضع فقال: {وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان} [الأنبياء: 48].
وقال الكسائي: الفرقان: نعت للكتاب، يريد: {وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب والفرقان} فرّق بين الحلال والحرام، والكفر والإيمان، والوعد والوعيد. فزيدت الواو فيه كما يُزاد في النعوت من قولهم: فلان حسن وطويل، وأنشد:
إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم

ودليل هذا التأويل قوله: {ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 154].
وقال قطرب: أراد به الفرقان، وفي الآية إضمار، ومعناه: وإذا آتينا موسى الكتاب ومحمّد الفرقان.
{لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} لهذين الكتابين، فترك أحد الإسمين، كقول الشاعر:
تراهُ كأن الله يجدع أنفه ** وعينيه إن مولاه بات له وفر

وقال ابن عباس: أراد بالفرقان النصر على الأعداء، نصر الله عزّ وجلّ موسى وأهلك فرعون وقومه، يدلّ عليه قوله عزّ وجلّ: {وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان} [الأنفال: 41] يوم بدر.
يمان بن رباب: الفرقان: انفراق البحر وهو من عظيم الآيات، يدلّ عليه قوله تعالى: {وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر فَأَنجَيْنَاكُمْ}.
{وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ} الذين إتخذوا العجل. {يَاقَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي ضررتم أنفسكم {باتخاذكم العجل} إلهاً، فقالوا: فأي شيء نصنع وما الحيلة؟ قال: {فتوبوا} فأرجعوا. {إلى بَارِئِكُمْ} أي خالقكم، وكان أبو عمرو يختلس الهمزة إلى الجزم في قوله: {بَارِئِكُمْ} و{يأمركم} وينصركم طلباً للخفة كقول امرؤ القيس:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثماً من الله ولا واغل

وأنشد:
وإذا أعوججن قلت صاحب قوّم ** بالدوّ أمثال السفين العوم

قال: {فاقتلوا أَنفُسَكُمْ} ليقتل البريء المجرم. {ذَلِكُمْ} القتل. {خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ} قال ابن جرير: فأبى الله عزّ وجلّ أن يقبل توبة بني إسرائيل إلاّ بالحال التي كرهوا أن يقاتلوهم حين عبدوا العجل.
وقال قتادة: جعلّ عقوبة عبدة العجل القتل؛ لأنّهم إرتدّوا، والكفر يبيح الدّم.
وقرأ قتادة: {فأقيلوا أنفسكم} من الأقالة أي استقيلوا العثرة بالتوبة، فلما أهمّ موسى بالقتل قالوا: نصير لأمر الله تعالى فجلسوا بالأفنية مختبئين وأصلت القوم عليهم الخناجر وكان الرّجل يرى ابنه وأباه وعمّه وقومه وصديقه وجاره فلم يمكنهم المضي لأمر الله وقالوا: يا موسى كيف نفعل؟ فأرسل الله ضبابة وسحابة سوداء لا يبصر بعضهم بعضاً وقيل لهم من حلّ حبوته أو مدّ طرفه إلى قاتله أو إتّقى بيد أو رجل فهو طعون مردود توبته، فكانوا يقتلونهم إلى المساء، فلمّا كثر فيهم القتل دعا هارون وموسى وبكياً وجزعاً وتضرّعاً وقالا: يا ربّ هلكت بنو اسرائيل البقيّة البقيّة، فكشف الله عزّ وجلّ السحاب وأمرهم أن يرفعوا السلاح عنهم ويكفّوا عن القتل.
فتكشّفت عن ألوف من القتلى، فاشتدّ ذلك على موسى، فأوحى الله إليه: أما يرضيك أن أدخل القاتل والمقتول الجنّة، وكان من قُتل منهم شهيداً ومن بقي منهم نكفّر عنه ذنوبه، فذلك قوله: {فَتَابَ عَلَيْكُمْ} يعني ففعلتم بأمره فتاب عليكم وتجاوز عنكم.
{إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم}.